إن حمى عدم الثقة المنتشرة في الوسط السياسي الأمريكي، هي العرض الأبرز لفيروس قوي يصيب مجتمعنا بالشك المتبادل، زرعته روسيا في النظام الديمقراطي الأمريكي.
بتكلفة ضئيلة وسهولة مدهشة، استغل فلاديمير بوتين وحكومته الحزبية وسائل التواصل الاجتماعي لخدمة هدف روسيا على المدى الطويل، المتمثل في إضعاف الغرب من خلال تشجيع الفوضى والانفصام، وبالفعل، قبل ثمانية أشهر من الانتخابات الرئاسية الأمريكية، ينتشر الفيروس دون رادع تقريبًا.
الملايين منا غير متأكدين ما إذا كانت الانتخابات ستكون حرة ونزيهة، سواء كانت الأخبار التي نقرأها يوميًا حقيقية أو مزيفة، وسواء كانت سياستنا الخارجية تخدم المصالح الوطنية أو الشخصية، فهذا على أي حال انتصار كبير لأعداء أمريكا، لأن مناخ الشك المتبادل في الداخل يضعف قدرتنا على التأثير على الأحداث في الخارج، كون الحكومات الأجنبية بالتأكيد ستفقد الثقة في دولة يفتقر قادتها – وأتباعها – إلى الثقة في بعضهم البعض.
لقد دعم “بوتين” هذه الانقسامات طيلة العقد الماضي، واستغل وسائل التواصل الاجتماعي لنشر المعلومات المضللة، وإذكاء نظريات المؤامرة، وربما دعم “بوتين” “قراصنة الإنترنت” العسكريين الروس، الذين تحول عملهم في عام 2016 إلى مشروع منسق مؤيد لترامب وساندرز، لتعزيز المرشحين المتشككين في النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة.
الثقة الوطنية أصبحت محطمة على مختلف المستويات، ومن المؤكد أن الزعيم الروسي سعيد بالفوز “الجيوسياسي” الكبير، الذي حققه مع القليل من الجهد وبمساعدة كبيرة من الأمريكيين غير الوطنيين.
المثير للسخرية، أن الأمريكيين من جميع التوجهات السياسية ساهموا في نجاح “بوتين”، من خلال فشلهم في فهم ما يريد ولماذا يريد ذلك؟ فأهدافه ليست أهداف الاتحاد السوفياتي السابق (على الرغم من أنه وصف انهيار الاتحاد السوفياتي بأنه كارثة).
خلال الحرب الباردة، سعى الكرملين إلى نشر الأيديولوجية الشيوعية، أما “بوتين” فهو غير أيديولوجي، إذ وصفه للسفير الأمريكي السابق لدى روسيا، مايكل ماكفول، قائلاً: “أراه مندفعًا وعاطفيًا وانتهازيًا، ويعتبر نفسه آخر زعيم قومي عظيم مناهض للعولمة”.
تولى “بوتين” السلطة فجأة، ففي الساعات الأخيرة من عام 1999، ومع بدء انطلاق الألعاب النارية احتفالاً بالعام الجديد، ظهر الرئيس الروسي بوريس يلتسين على شاشة التلفزيون الحكومي، وهو يوقع ببطء خطاب استقالة غير متوقع، ليسلم الحكومة إلى رئيس وزرائه، بوتين، ضابط الاستخبارات سابق في جهاز الاستخبارات السوفييتي (كي جي بي).
إن صعود بوتين خلال الفوضى التي سادت في فترة ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي، جعله مقتنعًا بأن الرأسمالية على النمط الغربي، التي لا تكبحها سلطة مركزية مسيطرة، لا تتفق مع الوضع الروسي، وللإنصاف، لم تقم الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون بما يكفي لمساعدة الروس على بناء اقتصاد السوق، وعلى الرغم من أن الأمريكيين ساعدوا في تصميم البورصة وغيرها من عناصر الاقتصاد في مرحلة ما بعد الاتحاد السوفييتي، إلا أن الصناعات المملوكة للدولة التي شكلت العمود الفقري للنظام القديم، تمت خصخصتها بسرعة في موجة من الفساد والانتهازية.
ويعتقد العديد من المراقبين الروس، أنه في وقت ما كانت هناك فرصة ليصبح بوتين شريكاً محتملاً للغرب، والواقع أنه في الوقت الذي أصبح فيه رئيساً، كان هناك بعض النقاش حول انضمام روسيا إلى حلف شمال الأطلنطي، كما فعلت بلدان عدة من الاتحاد السوفييتي بعد تفككه.
وفي أعقاب أحداث 11 سبتمبر 2001، اتصل بوتين هاتفيًا بالرئيس جورج دبليو بوش، ليشير إلى أنهما يمكن أن يكونا حلفاء في محاربة “العدو الإرهابي المشترك”، وحينها أعلن بوش عن أول لقاء له مع بوتين، قائلاً: “نظرت في عينيه ورأيت روحه”، ودعمًا لمبادرته تلك، لم يمارس بوتين حق الفيتو فى مجلس الامن الدولى عندما سعى بوش للحصول على موافقة على غزو العراق عام 2003، لخلع صدام حسين .
ولكن موقف بوتين تغير مع توسع النفوذ الغربي وشعوره بخطورة هذا الوضع، وفي وقت لاحق، أطاحت “ثورة الورود” في جورجيا بحكومة وزير الخارجية السوفييتي السابق إدوارد شيفرنادزه، واستبدلته بمخييل ساكاشفيلي الموالي للغرب، واندلعت ثورات أخرى في دول الاتحاد السوفييتي السابقة، مثل أوكرانيا وقيرغيزستان. وفي عام 2004، توسع حلف شمال الأطلسي إلى أعتاب روسيا، حيث انضمت إليه ثلاث جمهوريات سوفيتية سابقة، هي لاتفيا وليتوانيا وإستونيا.
اعتقد بوتين أن خصومه السابقين في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، كانوا وراء الثورات ضد أنظمة كانت موالية لروسيا، وأن الولايات المتحدة ستسعى في نهاية المطاف إلى تغيير النظام في روسيا نفسها.
وقال السفير الأمريكي السابق إن بوتين يعتقد ان الولايات المتحدة تسيء استخدام سلطتها، وتعمل على “الإطاحة بأي شعب لا تحبه”.
انتفاضات الربيع العربي، اندلاع الاحتجاجات على التزوير في الانتخابات البرلمانية الروسية، الإطاحة بحكومة موالية لروسيا في أوكرانيا، معارضة الولايات المتحدة لخط أنابيب لتصدير الغاز الطبيعي الروسي، الحملة الأمريكية على غسيل الأموال الروسية وانتهاكات حقوق الإنسان المعروفة باسم قانون “ماجنيتسكي”، كلها أمور فسرها الزعيم الروسي على أنها معادية معادية لروسيا، بل ومعادية له شخصيا.
إن الولايات المتحدة الموحدة، هي أكبر مخاوف بوتين، لذا، فقد خاطر بخلق عملية لزرع الشقاق من خلال وسائل التواصل الاجتماعي. إن قراصنة الكمبيوتر التابعين لبوتين يبحثون عن أي انقسامات وتوترات داخلية تساهم في تآكل الوحدة الأمريكية أو تشويه سمعة القيادة الأمريكية، وعلى الرغم من أنه كان يفضل ترامب بوضوح على هيلاري كلينتون في عام 2016، إلا أن بوتين لا يفضل عموماً وجهة نظر على أخرى؛ بل إن سعيه الأبرز تمضي نحو زرع الانقسام والشقاق.
خلص تقرير “مولر” الذي حقق في شبهة التدخل الروسي في الانتخابات الأمريكية، إلى أن “الحكومة الروسية تدخلت في الانتخابات الرئاسية لعام 2016 بطريقة كاسحة ومنهجية”، وكما هو موضح في لائحة اتهام فيدرالية مفصلة لوكالة أبحاث الإنترنت، بدأ العملاء الروس في عام 2014 بزرع الأكاذيب التحريضية والأخبار المزيفة على منصات التواصل الاجتماعي مثل فيسبوك وتويتر، كانت استراتيجيتهم بسيطة: البحث عن قضايا تدعم الانقسام.
وفي الوقت نفسه، ذهب بوتين للعمل على إضعاف أجزاء أخرى من التحالف الغربي، الضعيف أصلا، ومن خلال دعم الديكتاتور السوري بشار الأسد من التكتيكات الوحشية، ساعد في إرسال ملايين اللاجئين السوريين إلى أوروبا، وعندما اشتعلت الحركات القومية المعادية للأجانب كرد فعل، استغل الروس ذلك لزرع الشقاق عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
الخلاصة أنه من المناسب أن تكون ساحة المعركة التي اختارها بوتين هي الإنترنت، ففي الجغرافيا السياسية، كما هو الحال في مجال الأعمال التجارية، أدت الاتصالات الرقمية إلى قلب توزيع السلطة، لأنه عندما يكون كل شخص إعلاميًا محتملًا ويستطيع نشر المعلومات على الفور، فمن الأسهل بكثير هدم الأشياء بدلاً من بنائها.
إننا، ونحن مشغولون في اختيار من سيقود الأمة للسنوات الأربع المقبلة، علينا أن نسأل أنفسنا ما إذا كنا سنقاوم لعبة بوتين أم سنلعبها من أجله؟ هل سنصدق ما يريدنا أن نصدقه بشأن بعضنا البعض؟ هل سندعم الشقاق؟ هل سنعمق التصدعات ونفاقم خطوط الصدع؟ أم سننهي مناورة بوتين بأنفسنا؟
نقلاً عن “واشنطن بوست” بتصرف
ترجمة: مصطفى إبراهيم