من المعلوم أن الدستور هو “عقد” اجتماعي يضعه الشعب لنفسه، جوهره تحقيق “التوازن” بين القوى المتباينة، والمصالح المتعارضة والأقلية والأغلبية، والحرية والنظام، والسلطات وبعضها، بما يضمن حماية الحقوق الأساسية للإنسان من أي طغيان، بحيث يصير العقد مدعاة للاستقرار، وباعثا للحضارة ونهضة البلاد.
هذا “العقد” فيه بنود كاشفة تحدد القيم العليا للمجتمع، وبنود مُنشئة تختص بتنظيم الدولة وأسلوب إدارتها الذي ارتضاه الناس، ولأنه “عقد” ككل العقود -وإن كان أعظمها قدرا وارفعها مكانة لتعلقه بحاضر الشعوب ومستقبلها وقيمها وثقافتها وهويتها- يصبح باطلا إذا تم إقراره تحت إذعان أو نتاج تزوير إرادة وتجهيل بمحتواه، ويعتبر فاسدا إذا احتوى علي مبادئ تخالف القيم العليا للشعب أو تتعارض مع الحقوق الكونية للإنسان أو شابه خلل في “التوازن” فانحاز لطائفة أو ميز فئة علي حساب باقي الطوائف والفئات أو عجزت مواده عن تحقيق الفصل والتوازن بين السلطات، وهو بذلك يصبح مانعا يحول بين الأمة وبين الاستقرار الباعث علي الحضارة والنهضة، وقيدا يمنعها من اللحاق بتيار المدنية والمعاصرة.
والخلاصة أن الدستور الرشيد هو الذي يحقق التوازن اللازم لإدارة الدولة وفي ذات الوقت يحمي حرية الفكر والتعبير اللازمة للتفوق والإبداع والفنون والآداب والاكتشافات والابتكار، ويضمن حق المواطنين في الاشتراك بصورة مباشرة أو غير مباشرة في مناقشة وتحديد السياسات التي تنتهجها البلاد، ومن ثم يكون كفيلا بتفجير الطاقات الكامنة في النفوس واحتثاث وتحفيز القدرات الدفينة لدى الناس، ودافعا لهم للاهتمام بالشأن العام، وعدم الانعزال في دوائر المصالح الذاتية والشأن الخاص.
هكذا تكون المدونات الدستورية الجديرة بالتقدير والاحترام، ولكن يبقى السوال المحير كيف يُلزم المجتمع السلطة المنوط بها إدارة شئون البلاد بتلك المدونات؟ وهي لا تضمن جزاءات لمخالفة ما نصت عليه من مواد، وليس من المتصور أن تعاقب السلطات نفسها بنفسها إذا ما عطلت نصوصها أو تعدت على مبادئها أو التفت حول عباراتها أو أولت مفاهيمها على منحى مخالف لمقصودها الواضح والمسجل بمضابط تمت مناقشتها من قبل اللجان التي كلفت بوضعها؛ الإجابة الوحيدة لهذا السؤال هي أنه لا يمكن منع السلطات أو المؤسسات أو أصحاب النفوذ من الاعتداء علي الدستور إلا بحماية من الرأي العام، وببث الروح الدستورية في نفوس المواطنين وفي المؤسسات، والمراقبة الدائمة من المجتمع المدني والنقابات والأحزاب، مع تطبيق حاسم لمبدأ الفصل بين السلطات.